فصل: المسألة الرابعة: (في قوله: {يُدَبّرُ الأمر}):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الوجه الثالث: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول.
فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن، ولابد له من مرجح، ويعود التقرير الأول فيه.
فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أن كلمة {الذى} كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كما إذا قيل لك من زيد؟ فتقول: الذي أبوه منطلق، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقًا، أمرًا معلومًا عند السامع، فهنا لما قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقًا للسموات والأرض في ستة أيام، أمرًا معلومًا عند السامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟
وجوابه أن يقال: هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى، لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة.
ولما كان ذلك مشهورًا عندهم والعرب كانوا يخالطونهم، فالظاهر أنهم أيضًا سمعوه منهم، فلهذا السبب حسن هذا التعريف.
السؤال الثاني: ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها؟
والجواب: أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر.
والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعة، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الآن الأول أو لم يحصل، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر، فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئًا.
وهو محال.
وإن كان شيئًا آخر، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء.
فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة، ولا شك أيضًا أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج.
وإذا ثبت هذا فنقول هاهنا مذهبان: الأول: قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول: لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة؟ لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة، فسقط هذا السؤال.
الثاني: قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة.
فعند هذا قال القاضي: لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين.
ثم قال القاضي:
فإن قيل: فمن المعتبر وما وجه الاعتبار؟ ثم أجاب وقال: أما المعتبر فهو أنه لابد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين، أو معهما، وإلا لكان خلقهما عبثًا.
فإن قيل: فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد؟!
قلنا: إنه تعالى لا يخاف الفوت، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت، ونخاف العجز والقصور.
قال: وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقًا على خلق السموات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكة لابد لهم من مكان، فقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالًا بعد حال أقوى.
والدليل عليه: أن ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم.
وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك.
والسؤال الثالث: فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال: إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون؟
والجواب: قال القاضي: الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفًا، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة.
ولقائل أن يقول: لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا، لم يكن ذلك قادحًا في صحة التعريف.
السؤال الرابع: هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام:
ولقائل أن يقول: فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجب قدم المدة.
وجوابه: أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم.
السؤال الخامس: أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده.
فالمراد بهذه الآية أيهما.
والجواب: الغالب في اللغة أنه يراد باليوم اليوم بليلته.

.المسألة الثانية: [في قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}]:

أما قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ففيه مباحث: الأول: أن هذا يوهم كونه تعالى مستقرًا على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه، ولكنا نكتفي هاهنا بعبارة وجيزة.
فنقول: هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها، ويدل عليه وجوه: الأول: أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمدًا عليه مستقرًا عليه، بحيث لولا العرش لسقط ونزل، كما أنا إذا قلنا إن فلانًا مستو على سريره.
فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى.
إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجًا إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محال، لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له.
والثاني: أن قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستويًا عليه، وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال، وكل من كان متغيرًا كان محدثًا، وذلك بالاتفاق باطل.
الثالث: أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطربًا متحركًا، وكل ذلك من صفات المحدثات.
الرابع: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة (ثُمَّ) تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنيًا عن العرش، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة.
فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيًا عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرًا على العرش.
فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى.

.المسألة الثالثة: [أن العرش فوق السماوات]:

اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسمًا عظيمًا هو العرش.
إذا ثبت هذا فنقول: العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره؟ فيه قولان:
القول الأول: وهو الذي اختاره أبو مسلم الإصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشًا، وبانيه يسمى عارشًا، قال تعالى: {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أي يبنون، وقال في صفة القرية {فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [الحج: 45] والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] أي بناؤه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعدًا عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} [الزخرف: 12، 13] قال أبو مسلم: فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه.
فنقول: وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزًا صوابًا حسنًا.
ثم قال: ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: {خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى: {أأنتم أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27، 28] فذكر أولًا أنه بناها، ثم ذكر ثانيًا أنه رفع سمكها فسواها.
وكذلك ههنا.
ذكر بقوله: {خَلَقَ السموات والأرض} أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
والقول الثاني: وهو القول المشهور لجمهور المفسرين: أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية: الجسم العظيم الذي في السماء، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين.
بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر.
وهو أن يكون المراد: ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش.
والقول الثالث: أن المراد من العرش الملك، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات.
والحاصل أن العرش عبارة عن الملك، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض، لا جرم صح إدخال حرف {ثُمَّ} الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده.

.المسألة الرابعة: [في قوله: {يُدَبّرُ الأمر}]:

أما قوله: {يُدَبّرُ الأمر} معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي.
والمراد من {الأمر} الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض.
فإن قيل: ما موقع هذه الجملة؟
قلنا: قد دل بكونه خالقًا للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستويًا على العرش، على نهاية العظمة وغاية الجلالة.
ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه، فيصير ذلك دليلًا على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات، وإليه تنتهي الحاجات.
وأما قوله تعالى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} ففيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر.
ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح.